حكاية انسان: الجزء السابع

الساعة 9:45 مساءً, تاريخ مبهم

ها انا اقف فى وسط العديد من الاشخاص الذين يمتلكون وجوهاً مألوفة بالنسبة لى و لكننى لا أتذكر من يكونون و لكنى أعلم سبب مجيئى الى هنا, انا حاليا اجلس فى غرفة الانتظار فى مستشفى تبدو معالمها مألوفة بالنسبة لى مثل الاشخاص تماما لكننى حقا لا استطيع معرفة اسمها و كأن مرض الزهايمر قد تمكن من عقلى و لكن ها انا فى انتظار مولود جديد, اعلم اننى انتمى له بطريقة ما و لكننى لا اعرف سر قراتنا, ظننت فى البداية انه قد يكون ابنى و لكننى ما زلت صغيراً على خطوة الزواج و الانجاب فمن المستحيل ان اكون والده, ظننت لفترة قصيرة انه قد يكون اخى و لكننى استبعدت هذا فأننى كبير كفاية لئلا يحظى والدى بمولود جديد, فتقبلت احتمالية انه احد اقاربى فهذا كان الاحتمال الاكثر واقعية.

كل هذه الافكار زالت بمجرد ان رأيت الطفل يبكى فى الحضانة, برغم انطلاق الزغاريد و التهليلات من المتواجدين بمجرد رؤيته الا اننى انتابنى شعورا غريبا اهتز له قلبى بداخلى و صدقنى لا أستطيع ان اصف هذا الشعور فهو غير مشابه لأياً كان ما شعرت به قبلاً.

لقد تمكن منى الصداع الشديد بدون أى سابق انذار فأغلقت عيناى لأدعكهما بشدة ثم فتحتهما لأجد جميع الحضور يتجهون ناحية رجل ليهنئونه الدى كان من الواضح انه والد الطفل و كان يتقبل تهنئاتهم باسماً حتى سألته احدى السيدات قائلةً:
"ها هتسموه ايه؟"

فصمت قليلا ناظراً الى غرفة العمليات حيث كانت زوجته راقدة ثم قال:
"هنسميه ....."

للحظة اعتقدت اننى قد اصبت بالصمم لعدم قدرتى على سماع الاصوات من حولى, لم اعلم ما اصابنى و لكن شعرت بدوار شديد جعل كل ما حولى يدور امام عيناى حتى شعرت كأنى اسقط هاوياً من فوق قمة جبل و لم ترى عيناى الا الظلام الحالك لثوانٍ قليلة ثم بدأت اسمع صوت احدهم يصرخ بجانب اذنى, و كان الصوت بعيداً فلم افسر ما يقول و توالى الصوت فى الاقتراب و ازداد وضوحاً حتى سمعت هذا الصوت يقول لى:
"حمد الله عالسلامة يا دكتور"

فتحت عيانى لأجد رجلاً يرتدى بالطو ابيض و يبدو من مظهره انه عالم و تداركت ذلك عندما نظرت للمحيط فأدركت اننا فى معمل, ثم بتثاقل لسانى سألته:
"هو ايه اللى حصل؟"

ضحك الرجل ثم أجاب:
"يا دكتور ما قولتلك بلاش من الاول, عملتلى فيها اسد و ادى اخرتها, المهم انت كويس دلوقتى؟"

"مصدع اوى ياااا ..... , معلش فكرنى اسمك ايه؟"

ضحك مجددا ثم اردف:
"ااااه, لأ كده هخاف عليك يا دكتور, انا دكتور بغدادى, انت فاكر انت هنا ليه طيب؟"

"ايوه يا عم متقلقش لسه ملسعتش, انا بس عندى مشكلة فى الاسامى"

"طيب حاسس بأى حاجة تانى غير الصداع؟"

"لأ متقلقش يا دكتور انا زى الفل, يلا بينا تانى؟"

"لأ يلا تانى ايه, حضرتك محتاج تأجز اسبوع على الاقل عشان تجربة زى دى بتأثر على خلايا المخ"

"لأ اسبوع ايه انا مش فاضى, انا هسمع كلامك و هريح بس بكرة لازم نكمل"

فرفع الرجل يداه و نظر الى السقف متعجباً و قال:
"خلاص اللى تشوفه يا دكتور, امرى لله"


بعدما عدت الى المنزل حاولت النوم و لكن ما رأيته اثناء تجربة السفر عبر الزمن كان عالقاً بذهنى يؤرق نومى و حاولت فهم ما رأيته و لكن كل ذلك كان بلا فائدة, كل ما استطعت فعله هو الانتظار حتى اليوم التالى لأعيد التجربة بعد التعديل المنتظر الذى وعدنى به الدكتور بغدادى.

فى صباح اليوم التالى عدت الى معمل الدكتور بغدادى و عندما دخلت قام بتحيتى و سألنى:
"ايه الاخبار انهارده؟ احسن من امبارح و لا نأجل يومين كمان؟"

"لأ يا دكتور انا تمام, معلش بس انا عارف امبارح كنت بتكلم بطريقة غريبة بس انا احسن انهارده بكتير الحمد لله, حضرتك ظبطت حوار التواريخ ده ولا لسه؟ اصل بصراحة امبارح انا مفهمتش اى حاجة و معرفتش اربط اللى شوفته بأى حاجة انا عيشتها زمان, و خايف لا تكون بعتتنى المستقبل "

"يا دكتور لو كنت روحت المستقبل فده كان هيبقى انجاز نحمد ربنا عليه, بس لأ ده كان فى الماضى و بصراحة معرفتش احدد الزمن بس انهارده الدنيا اتظبطت بأذن الله يعنى و ادينا هنشوف دلوقتى و املنا فى ربنا."

"ايه يا دكتور بغدادى انت هتخوفنى ليه؟ انا هموت ولا ايه؟" ثم ضحكت مستنكراً ما قد قلته.

"لأ يا دكتور ان شاء الله خير, يلا بينا؟"

"توكلنا على الله"

"هنرجع كام سنة المرادى؟"

"15 سنة"


و بالفعل رأيت الدكتور بغدادى يضبط المؤشر و يشغل الجهاز لأشعر بنفس الصداع و الدوار مرة اخرى و افتح عيناى هذه المرة لأجد نفسى فى مدرسة و يحيط بى الاطفال من كل ناحية و فى هذه اللحظة علمت انها مدرستى القديمة لذا ههمت بالدخول الى دورة المياه لأغسل وجهى مقاوماً الصداع الذى اصابنى, بعدما رفعت عيناى وجدت نفسى اواجه مرآة متسخة و ارى نفسى كطفل ففى الحال رجعت بضع خطوات للخلف ليصتدم بباب احدى الحمامات لينفتح فيصرخ احد الاطفال الذى كان يتبول بالداخل و يركل الباب بقدمه مغلقاً اياه و رأى هذا المنظر مجموعة من الاطفال الاضخم بنياناً منى فأتجهوا ناحيتى ضاحكين و سألنى الاضخم فيهم قائلاً:
"انت من امتى بتعمل الحركات دى؟ انت محترم مش بتاع الكلام ده"

لا اراديا وجدت نفسى اصطنع ابتسامة و قلت:
"لأ صدقنى انا مكنش قصدى"


لم يعرنى اياً منهم انتباههم و فتحوا باب الحمام مرة اخرى و لكن هذه المرة قد نجا الطفل من شرهم بأنه قد انتهى من ارتداء بنطاله و خرج مهرولاً دون ان ينظر الى أى منا, و لكن فى هذه اللحظة نظر الى احدهم بخبث قائلاً:
"طب احنا هنتسلى على مين كده؟"

علمت انه يقصدنى بنظرته لذا بصعوبة ابتلعت ريقى عندما اقترب الى الطفل الضخم ليدفعنى بداخل احدى الحمامات ليحبسونى بالداخل.
قضيت بعض الوقت صامتاً منتظراً حتى يدخل احدهم الى هنا ليساعدنى على الخروج و لكننى انتظرت وقتاً كافياً لأبدأ الصياح طالباً المساعدة.

بعد قليل من الوقت شعرت بنفس الدوار لأعلم ان رحلتى لليوم قد انتهت و بالفعل عدت الى معمل الدكتور بغدادى فى غضون ثوانٍ, و عندما فتحت عيناى نظر الى و قال:
"ايه الاخبار؟"

حاولت اخفاء تعابير وجهى الحائرة من الاحداث و قلت:
"كله تمام يا دكتور و الجهاز فعلاً ظبط حوار التواريخ ده"

فنظر الى بسعادة بالغة قبل ان اقاطع ما جال فى ذهنه بسؤالى:
"هو ينفع نعمل كده تانى انهارده؟"

فكان رده:
"بص يا دكتور الموضوع فى ايدك انت, لو حاسس انك قادر انا معنديش مشكلة, بس انا خايف عليك"

"لأ متقلقش انا تمام"

"طب ادينى ساعة الجهاز يريح و حضرتك كمان تريح"


*بعد مرور ساعة*


"يلا بينا؟"

"يلا بينا !"

"كام سنة المرادى؟"

"7 سنين يا دكتور بغدادى"


بالفعل عدت لنفس الدوامة و هذه المرة افتح عيناى لأجد نفسى اقف فى الشارع مستنداً الى سيارة مغطاة ممسكاً بمذكرة فى يدى و واضعاً الاخرى على السيارة و كان يلتف حولها 4 شباب فى مثل سنى ليقوموا بنقل ما كتبته الى مذكراتهم, نعم ذلك ما يدور بخاطرك اننا ذاهبين الى احد الدروس و هؤلاء ليسوا بأصدقاءٍ لى, كنت اعرف احدهم من المدرسة و الاخرين لم اعرفهم قبلا لكنهم كانوا اصدقاء هذا الشاب و هو قد طلب منى المساعدة لعلمى اننى اهتممت بدراستى.
بعد قليل نزلت الفتيات من العمارة حيث كان يجب ان نصعد فبدأ الشبان باطلاق الصفافير و كلمات الغزل اليهن بينما كنت اقف صامتاً فقد شعرت بالخجل مما يفعلونه لكننى لم استطع ان انتهرهم, فلم اجد مفراً لايقاف هذه المهزلة الا بأن اتحدث الى الشباب قائلاً لهم:
"بعد اذنكم هاخد المذكرة عشان اطلع الدرس بقى و متأخرش"

"يا عم استنى 10 دقايق و هنطلع كلنا مع بعض"


فاستسلمت الى ما قاله هذا الشاب و انتظرت حتى رأينا احد زملائنا نازلاً فأوقفناه لنسأله:
"هو انت نزلت ليه؟"

"المستر لغى الدرس دلوقتى عشان عنده ظروف سفر و هيعوض يوم الجمعة فى نفس المعاد"


فهلل الشبان جميعهم و ساروا باتجاه الشارع حيث كنت معتاداً ان اركب مواصلاتى منه فتلقائياً سرت معهم حتى سألنى ذلك الشاب من مدرستى:
"هو انت هتعمل ايه دلوقتى؟"

"مروح !"

"طب ما تيجى تقعد معانا عالقهوة"

"لأ يا عم لازم اروح ورايا مذاكرة كتير" بالطبع لم اكن انوى المذاكرة لكننى لم اشعر بالراحة فى وجود هؤلاء الشباب.

"يا عم مترخمش, اكيد هتضيع وقت يعنى, تعالى اقعد معانا ساعة و روح"


فهززت رأسى بالموافقة و بينما نسير وجدنا نفس مجموعة البنات من الدرس و لكن لصدمتى هذه المرة توقفوا من اجلنا و بدأ كلٌ منهم يحدث احدى الفتيات و كأنهم كانوا يعرفونهم قبلاً اما بالنسبة لى فوقفت مذهولاً لا اعلم ماذا افعل و بدأت فى التعرق فانسحبت بهدوء بدون ان يلحظ احد غيابى.

بينما اسير بدأ الدوار مرة اخرى لأعود الى المعمل.


"حمد الله عالسلامة يا دكتور, ايه الاخبار؟"

"انا مش هستنى ساعة كمان, يلا بينا تانى دلوقتى"

"على مهلك يا دكتور, انت ادمنت الحوار ولا ايه؟ كده خطر على صحتك"

"ما انا مش ههدى غير لما افهم"

"تفهم ايه؟"

"هقولك بعدين, يلا بس"

"يا دكتور ..."

"يلااااا"

"خلاص اللى تشوفه بس انا مش مسئول, كام سنة؟"

"سنة واحدة بس"


بالفعل ذهب الدكتور بغدادى ليضبط الجهاز و يشغله مرة اخرى, فتحت عينى لآخر مرة لأجد نفسى جالساً فى قاعة محاضرات و تجلس امامى طالبة ذات منصباً فى اتحاد الطلبة تكبرنى بعام و كانت هذه المقابلة بغرض التقدم لمنصب رئاسة الاتحاد و ذلك ما فهمته من اسئلتها.
تجنباً للتفاصيل غير الهامة اظن اننى ابليت جيداً فى الرد على جميع اسئلتها الا انها استوقفتنى فى النهاية لتقل:
"بص انت اجاباتك كلها مفيهاش مشكلة بس انت طريقة كلامك و شخصيتك مش هتكون مناسبة للposition ده, ممكن تشتغل على نفسك و تقدم السنة الجاية و ان شاء الله هتتقبل"

ثم اختفى كل شئ من امامى بسرعة اكبر من كل مرة سابقة, لأفتح عينى و أجد د. بغدادى ممسكاً برأسه فى حيرة و فى ذات اللحظة نظر الى و قال لاهثاً:
"الحمد لله انك بخير يا دكتور"

"فى ايه يا د. بغدادى؟"

"حصل error فى الجهاز مش عارف ليه, المهم لو حسيت بأى side effects اتصل بيا على طول بس ان شاء الله خير!"


لم ارد العودة الى المنزل فاتصلت بأحد اصدقائى المقربين مخبراً اياه اننى اريد رؤيته فاتفقنا ان نتقابل على مقهى اعتدنا الجلوس فيه و انتظرت مجيئه, بدأت اخبره عن تجربتى الغريبة و ما رأيته, برغم توترى الا انه قابل كل كلامى منفجرا فى الضحك مما زاد غضبى فسألته ان يتوقف و يشرح لى سبب ضحكه فقال:
"صدقنى يا محسن مش قصدى اقلل من كلامك بس انا كل ما افتكر حوار السنة اللى فاتت ده اقعد اضحك"

"انت بتعايرنى يعنى؟"

"بعايرك ايه يا عم, احنا نعرف بعض بقالنا قد ايه؟ من ساعة ما دخلنا الكلية, فاكر شكلك و طريقتك كانوا عاملين ازاى؟"

"خلاص متزيطش"

"مش بزيط صدقنى بس بص للجانب الايجابى, بص على نفسك دلوقتى, انا لما شوفتك من 5 سنين عمرى ما تخيلت انك هتوصل للى انت عليه دلوقتى, انت نفسك عمرك ما كنت هتتخيل انك تبقى الشخص بتاع دلوقتى, انت لو مكونتش عديت فى الخرا ده مكونتش هتبقى الشخص بتاع دلوقتى و صدقنى انت عارف انى اخر واحد هطبلك بس انت اى حد يتشرف انه يعرفك, مش محتاج اقول انى بحب دماغك و طيبتك غير انك راجل موهوب فى كذا حاجة و بتلعب رياضة, انا عارف انك بتسمع الكلام ده و حاسس انى بهرى او بقولك الكلام ده عشان احسسك انك كويس, بس لو مش هتفتكر اى حاجة من كلامى افتكر شكلك اللى كنت بتشوفه و مكسوف منه و بص على نفسك دلوقتى و اللى خلاك تنط النطة بتاعت شخصيتك دلوقتى تقول انك هتبقى شخصية فشيخة فى الكام سنة الجايين."



بطل القصة: عبد الرحمن محسن

Comments

Popular posts from this blog

A Walk In God's Temple

هل أستحق الموت؟ "حدث بالفعل"

كان نفسى أحبك زى ما حبيتينى !