قبل أن أرحل: الجزء (١\٢)

اليوم العاشر من سبتمبر عام ٢٠٠١


كم أحببت السفر و المغامرات و كل ما هو جديد و على النقيض كنت أكره الروتين تماماً. بالمناسبة إسمى مروان, لقد عشت ال١٧ عام الماضية فى الإمارات العربية المتحدة, تحديداً فى أبو ظبى.

أبى يعمل كطبيب و أمى مدرسة لغة إنجليزية إنتقلا سوياً من مصر فى عام ١٩٧٩ حيث حصل أبى على عقد عمل بمستشفى هنا و حظوا بأختى الكبرى عام ٨١ ثم انا بعدها بعامين و كانت الحياة هنا مثالية بالنسبة لى و التحقت بمدرسة كبيرة و أتذكر بداية عشقى للسفر كانت فى الصف الرابع الابتدائى أو ربما من قبل ذلك و لكنى أغرمت بمعلمة الجغرافيا التى كانت مصرية مثلى فبرغم مولدى هنا إلا أننى لم أحظ بالجنسية الإماراتية.

ربما كان ذلك أيضاً نتاج اختلاطى بزملاء دراسة من مختلف الجنسيات, كنت أرى الكرة الأرضية كأهداف صغيرة يجب أن أزورها كلها و عقدت العزم أن بحلول عامى الخامس و الثلاثون سأكون قد زرت مئة دولة من كل القارات.


بداية رحلتى كانت الذهاب برحلة مدرسية إلى دولة اليابان و ذلك بعدما أتممت عامى الثالث عشر و قضيت هناك ١٠ أيام زرنا فيها القليل من مصانع الإلكترونيات و الكثير من المعالم السياحية سواء فى طوكيو أو هيروشيما أو أوساكا.

بعد عودتنا بشهر ذهبت إلى مصر فى رحلة عائلية لزيارة أقاربنا و مكثنا معظم الوقت بين القاهرة و الأسكندرية.

كل ذلك اشتعل بذاكرتى بالأمس فقد كنت فى الطائرة المتجهة الى الولايات المتحدة الأمريكية تحديداً العاصمة واشنطن و تعد تلك الرحلة مميزة بالنسبة لى لأنها كانت بمناسبة عيد مولدى الثامن عشر.

كانت صديقتى "فاليرى" جالسة بالمقعد بجانبى و تراقبنى بينما أخرج الخريطة الخاصة بى لأضع علامة فوق الولايات المتحدة فقد كان من عادتى أن أترك علامة بخريطتى فوق كل دولة أقوم بزيارتها.


فاليرى كانت زميلتى فى المدرسة و لكنى لم أتعرف بها جيداً إلا منذ رحلتنا إلى اليابان منذ خمسة أعوام, فاليرى اسرائيلية الجنسية و لكن ذلك لم يعنينى برغم العداوة الشديدة بيننا كمصريين إلا أننى كنت أراها مجرد إنسانة بل بالأحرى أصبحت صديقة لطيفة, أمها إسرائيلية الجنسية و أبوها أمريكى, انتقلوا مثلنا من بلدتهم الأساسية بعقد عمل, أبوها كان مهندس طرق أما بالنسبة لأمها فكانت تعمل باستقبال أحد الفنادق الكبيرة, علمت أن أمر جنسيتها قد يؤثر على صداقتنا إذا علم والدىَ بشأنه لذا أبقيت الأمر سراً عنهما, و ذلك لم يكن السر الوحيد فنحن لم نكن على وفاق أبداً و قلما نتقابل أو نتحدث لذا كان لكل منا حياته الخاصة.


أساس تلك الرحلة هو انفصال والدى فاليرى فعاد والد فاليرى إلى أمريكا منذ عام أو أكثر بقليل و أرادت زيارته و بما أنها كانت صديقتى المفضلة استغللت الفرصة لنجعلها رحلة لطيفة بدلاً من أن يكون واجباً ثقيلاً على فاليرى تأديته و بعد الانتهاء من تلك الزيارة سنستمتع بزيارة بعض الولايات الأخرى مثل كاليفورنيا و هاواي.

بعد هبوط طائرتنا ذهبنا مباشرة إلى الفندق الذى سنقضى به ليلتنا و ذهب كل منا إلى غرفته.

استيقظت اليوم لأجد أنها قد غادرت بالفعل لزيارة أبيها و أما بالنسبة لى فقد قضيت الوقت فى الفندق منتظراً عودتها لنذهب للغداء سوياً بأحد المطاعم الفاخرة فى المدينة.

حاولت البقاء متيقظاً و لكن غلب على النعاس حيث قضيت الليل كله مفكراً فى أن هذا الوقت يعد مثالياً لأعترف فيه لها بحبى, ظللت أمر بذكرياتنا طوال الوقت الماضى و أوقاتنا السعيدة و كنت مبتسماً فاغر الثغر و لكن فى نفس الوقت تسربت إلى داخلى مشاعر الرهبة, ماذا لو رفضتنى؟ ماذا لو نفرت منى؟ ماذا لو أفسدت صداقتنا و خسرتها؟ ماذا لو و ماذا لو؟

نفضت عنى كل تلك الأفكار السلبية و فى قرارة نفسى علمت وجوب التصدى لهواجسى و ما أسوأ ما يمكن أن يحدث؟ سأخبرها و مهما يحدث فليكن الأمر كذلك و لكن على النوم الآن.


عادت فاليرى لاحقاً للفندق و طرقت على باب غرفتى فاستيقظت و فتحت لها. بدت سعيدة و أجمل من أى مرة رأيتها فيها من قبل و كانت مفعمة بالحماس و صاحت بى "كل ده نايم و لسه ملبستش؟ يلا إلبس بسرعة عشان جعانة و عشان عايزة أحكيلك حاجات كتير."

تلقائياً ابتسمت لها و كأنما قد نقلت لى الطاقة من داخلها و قلت لها أن تدخل و لكنها دفعتنى بخفة و ضحكت قائلةً:

"أدخل فين؟ يابنى انت نسيت تلبس البنطلون أصلاً ! إلبس و انا مستنياك تحت."

شعرت بالاحراج للغاية و لكنى ضحكت رغماً عنى بعدما أغلقت الباب, غسلت وجهى بسرعة و انتقيت ملابس عشوائية فقد تركت ملابسى الأنيقة للغد, أردت أن يكون كل شئ مثالياً فى عيد مولدى لأنه اليوم الموعود الذى سأخبرها فيه بحقيقة مشاعرى تجاهها.

ذهبنا سوياً إلى المطعم و بدأت تحكى لى عن زيارتها لأبيها و بالنسبة لى كان الأمر يميل للملل إن سمعت هذه الأمور من شخص آخر و لكنى كنت منصتاً لها و لكن فى نهاية الأمر سألتها:

"انتى قلتى عايزة تحكيلى حاجات كتير و كان شكلك مبسوطة, فإيه بقى؟"

سكتت قليلاً و كانت تتأملنى بعيناها لذا شعرت بتوتر لأن الأمر كان مثل الهدوء الذى يسبق العاصفة, و لكنها أخيراً تحدثت و قالت:

"مش حوار مهم يعنى بس انا قابلت واحد من قرايبنا كان بقالى كتير مشوفتوش فكانت حاجة لطيفة, و هو بيشتغل فى تصميم الديكور و عرض عليا اشتغل معاه أثناء الجامعة لو قررت أكمل هنا يعنى فحسيت إن الدنيا هتبقى حلوة"

شعرت بقلبى ينقبض و لكنى حاولت إخفاء ذلك و ابتسمت سائلاً إياها:

"هو انتى قررتى تخشى جامعى هنا؟"

فهزت كتفاها و حولت عيناها بعيداً عنى و قالت:

"صدقنى لسه مش عارفة هعمل إيه, كده كده الصيف لسه طويل و قدامى وقت أفكر بس انا شايفة إن دى فرصة كويسة يعنى"

لم يشعرنى ذلك بالارتياح بل شعرت بالتهديد و لكنى حاولت الاحتفاظ برباطة جأشى و ألا انفعل برغم صعوبة وقع ما تقوله على, و لكن أجبتها:

"هى أكيد فرصة حلوة بس مش حاسة إنها هتبقى حاجة صعبة إنك تغيرى كل حاجة مرة واحدة كده؟"

ابتسمت كما لو أنها لم تفهم وقع ما تقوله على قلبى و قالت:

"انا لسه مقررتش, بس حتى لو جيت هنا فأنا هبقى مع بابا و بعدين انا هتفحت فى الكلية و فى الشغل طول ما انا هنا فمش هلحق حتى أفكر فى حاجة, و فى الأجازات أكيد هاجى عشان ماما و كده"

لم أقوى على كبح مشاعرى تلك المرة فقلت:

"طب و حياتك اللى متعودة عليها, و أصحابك؟ و انا؟"

ضحكت لى و قالت:

"هو انا هموت؟ ما انا معاك أهو و بعدين فى إختراع إسمه موبايل ممكن نتكلم فى أى وقت و فى الأجازات أكيد هنتقابل, و بعدين انا مقُلتش إنى قررت أقعد هنا, دى مجرد فكرة."

سكتت قليلاً ثم قلت: "طيب"

انفعلت فاليرى و قالت عابسةً:

"انا بعد كده مش هحكيلك حاجة تانى عشان بتضايق فى الآخر"

حاولت أن أتمالك نفسى و قلت:

"طبيعى هتضايق لما أعرف إنك هتبقى بعيدة و انتى أقرب حد ليا, عموماً انا آسف مكانش قصدى أضايقك."


خيم الصمت على جلستنا و لم يقتطعه إلا قولها "خلاص بقى متزعلش" فهززت رأسى مؤكداً أنى بخير و بدون إنذار قرصت خدى مداعبةً إياى فضحكت ثم ضحكت هى بالمثل.

بعد مرور ١٠ دقائق دخل المطعم شاب أنيق له جسم ممشوق فى أوائل العشرينات من العمر و اقترب تجاه طاولتنا فهبت فاليرى لتقف و صرخت "أليكس" ثم عانقته بقوة و قالت "أعرفكم ببعض, مروان صديقى, أليكس قريبى اللى كنت بحكيلك عليه"

تصافحنا و لكنى شعرت بعدم الارتياح و على العكس بدا أليكس شديد الثقة بنفسه و تبادلنا حواراً قصيراً انتهى بدعوة فاليرى له بمشاركتنا الطاولة و لكنه اعتذر متحججاً بأنه كان ماراً من هنا فقط و لمحها لذا مر ليرحب بنا.

غادر أليكس و ساد الصمت مجدداً و بعدما انتهينا من الطعام سألتنى فاليرى عن سبب صمتى و لكنى أخبرتها أنه ليس لدى ما أقوله و لكن بداخلى كانت الغيرة تقتلنى و أفكارى تلتهمنى.

عدنا إلى الفندق لاحقاً و قضينا ليلتنا كل منا فى غرفته و دفعنى ذلك إلى الغرق فى دوامة تفكيرى و لكن انتشلتنى من هذه الدوامة صوت الهاتف يرن و كانت فاليرى المتصلة, ظلت تحاول فتح أحاديث عشوائية عن خططنا لرحلتنا الأيام القادمة و تحدثنا عن بعض الأحداث فى الأيام الماضية و فى النهاية أخبرتنى أنها تعلم أننى لست بخير و أنها قد تكون ضايقتنى و لكنها لم تقصد ذلك و أهميتى فى حياتها مما كسر حاجز الحزن و التوتر بيننا و بعدما أنهينا المكالمة استغرقت فى النوم استعداداً للحدث الكبير, عيد مولدى.


فى اليوم التالى استيقظت و أمسكت بهاتفى و بعثت برسالة لفاليرى لأرى إن كانت قد انتهت من زيارة أبيها فقد اتفقنا أننا سنبقى بواشنطن لمدة ٣ ليالى و من ثم سنغادر إلى كاليفورنيا و أن كل صباح ستقضيه مع أبيها.

بعثت لى برسالة أنها ستتأخر قليلاً حيث أنها قد ذهبت مع أبيها إلى المركز التجارى ليحظوا بوجبة الإفطار سوياً.

قررت الخروج للتمشى فى هذه الأثناء و بينما انا فى الخارج سمعت صوت انفجار مدوى و اندلعت النيران من عدة مبانى ضخمة و من ثم الدخان يملأ السماء. عدت إلى الفندق و بينما كنت فى الطريق بعثت برسالة لفاليرى لأطمئن عليها و لكنها لم تجب.

بمجرد عودتى إلى الفندق اتصلت بها و لكن هاتفها كان مشغولاً مما آثار قلقى.

تابعت التلفاز محاولاً معرفة الأخبار و علمت أنه كان هجوم إرهابى على بعض المبانى مما فيها المركز التجارى الرئيسى و سمعت من حولى ضجيج سيارات الاسعاف و الشرطة و المطافى.

لاحقاً بعد محاولات عديدة من الاتصال بفاليرى الغير مجدية بدأت تظهر على الشاشة قائمة بالضحايا و المصابين و ظهر اسم فاليرى ضمن المصابين فتغلغل بداخلى مزيج من السلام أنها ما زالت حية و رعب يسقط قلبى بداخلى أن سوء قد أصابها أثناء غيابى.

بعد محاولات عديدة توصلت إلى اسامى المستشفيات التى نقل إليها المصابين فهرولت تجاه أحدهم و لكن لم تكن هناك فذهبت إلى الأخرى و قلبى يخفق بشدة, صوت أفكارى و خوفى قد علا و غطى على صوت سرينة سيارات الاسعاف و وصلت إلى الثانية و دخلت و أنفاسى تتسارع إلى الاستقبال.

و ضربت نفسى الصاعقة عندما أخبرنى أحد الممرضين أنهم فقدوها فى الطريق, لم تستطع النجاة من أثار الحريق بجسدها.


لم أقدر على استيعاب ما قاله لى و تلقائياً سألته مرة أخرى فكان رده "انا آسف, مقدرناش نلحقها" فأصابنى الجنون و صفعته على وجهه و ظللت أصرخ حتى جاء رجال الأمن و التفوا حولى فشعرت بالإعياء و سقطت فاقداً للوعى.


كيف يمكن لكل شئ أن ينتهى قبل أن يبدأ حتى؟

Pin on Alone


Comments

Popular posts from this blog

A Walk In God's Temple

هل أستحق الموت؟ "حدث بالفعل"

كان نفسى أحبك زى ما حبيتينى !